التقنية بين لعنة كازينسكي وأيقونته الرقمية

في عالم يمضي بسرعة نحو مستقبل تهيمن عليه التكنولوجيا، تبقى أفكار تيد كازينسكي، المعروف باسم الأونابومبر، حاضرة بشكل لافت. رغم كونه قاتلًا متسلسلًا، إلا أن الكثير من تنبؤاته حول مخاطر التطور التقني وجدت صدى في أوساط تزداد قناعتها بأن الحداثة سلبت الإنسان حريته. المفارقة الكبرى؟ التقنية ذاتها التي حاربها كازينسكي هي التي أعادت أفكاره إلى الواجهة، لتتحول إلى موجة رقمية يتبناها آلاف الأشخاص حول العالم.
من هو تيد كازينسكي؟
تيد لم يكن شخصًا عاديًا، بل عبقريًا حصل على 167 نقطة في اختبار الذكاء، ودخل جامعة هارفارد في سن السادسة عشرة. لكنه، بدلًا من استغلال ذكائه في البحث العلمي، اختار حياة العزلة، مقتنعًا بأن التقدم التقني يهدد حرية الإنسان. لم يكتفِ بالانعزال، بل قرر محاربة التكنولوجيا بالعنف، عبر إرسال قنابل بريدية استهدفت شخصيات أكاديمية وعلمية، مما أدى إلى مقتل 3 أشخاص وإصابة 23 آخرين.
النقطة الفاصلة في قضيته كانت عندما أرسل إلى نيويورك تايمز وواشنطن بوست طلبًا لنشر مقاله الشهير “بيان المجتمع الصناعي ومستقبله”، الذي يعرض فيه فلسفته حول مخاطر التقنية. هذا البيان، رغم كونه أداة اعتقاله بعد أن تعرف عليه شقيقه، أصبح نقطة انطلاق لأفكاره في العصر الرقمي.
لويجي مانجيوني.. نسخة معاصرة من الأونابومبر؟
في ديسمبر الماضي، حدث ما لم يكن متوقعًا: ارتكب لويجي مانجيوني جريمة قتل مستوحاة من أفكار كازينسكي. استهدف برايان تومسون، الرئيس التنفيذي لأكبر شركات الرعاية الصحية في أمريكا، وأطلق عليه ثلاث رصاصات، حُفرت على أغلفتها كلمات “الإنكار” و**“الدفاع”** و**“العزل”**، في إشارة إلى ممارسات شركات التأمين الصحي التي تهرب من مستحقات العملاء.
لم تكن جريمة مانجيوني مجرد فعل انتقامي، بل امتدادًا لفكرة أن النظام الحديث يسلب الإنسان حقوقه باسم الرأسمالية الجامحة. عند اعتقاله، وُجد بحوزته بيان مكتوب بخط اليد يهاجم فيه شركات التأمين ويصفها بأنها “سرطان المجتمع الصناعي”.
الإنترنت.. سلاح ذو حدين في نشر الفكر المناهض للتقنية
منذ ظهور قضية مانجيوني، تصاعد الاهتمام بأفكار كازينسكي، وقفزت عمليات البحث عن بيانه الشهير بنسبة 5000%. على وسائل التواصل، انتشرت وسوم مثل #tedpill و**#tedk**، وحصدت ملايين المشاهدات على تيك توك، حيث يعيد المستخدمون إنتاج أفكاره من منظور جديد.
بل وتطور الأمر إلى ما هو أبعد، إذ نشأ مجتمع رقمي يحمل أفكار “البدائيين الجدد” الذين يرفضون التقنية الحديثة. يتميز هؤلاء بوضع إيموجي شجرة الصنوبر في أسمائهم، ويتبادلون الميمات الساخرة التي تدعو للعودة إلى الحياة البدائية، تمامًا كما تصورها كازينسكي في منشوره الأصلي.
التقنية.. العدو أم الأداة؟
يبقى السؤال الجوهري: هل كانت التقنية حقًا العدو كما تصورها كازينسكي؟ أم أنها مجرد أداة تعتمد على كيفية استخدامها؟
المفارقة الكبرى أن الشخص الذي كره التقنية، أصبحت أفكاره تنتشر بفضلها، بل وصارت جزءًا من محتوى الإنترنت الأكثر تداولًا في دوائر معينة. حتى مسلسلات نتفليكس وهوليوود ساهمت في إعادة تسليط الضوء عليه، مما جعل فلسفته أكثر انتشارًا من أي وقت مضى.
في النهاية، يبدو أن الخط الفاصل بين تبني الأفكار وانتقادها أصبح أكثر ضبابية من أي وقت مضى. فكما استخدم كازينسكي العنف لنشر أفكاره، استخدم لويجي مانجيوني السلاح الرقمي، محولًا الإنترنت إلى ساحة معركة جديدة. الفرق الوحيد؟ هذه المرة، لم تكن التقنية هي العدو، بل الوسيلة التي منحت أفكاره حياة جديدة.